الأحد، 1 يوليو 2012

سجلماسة بين شح المعطيات التاريخية وفك الألغاز الأثرية


  ظهرت مدينة سجلماسة بجلاء على مسرح الأحداث التاريخية المغربية مع بزوغ الحضارة الإسلامية، وحظيت باهتمام واسع من لدن عدد من الكُتاب القدامى، وجذبت منطقتها أعين المستكشفين الأوربيين منذ القرن الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي. وكانت موضوع دراسات جامعية داخل المغرب وخارجه، وخضع موقعها لأبحاث أثرية من طرف بعثات علمية مغربية وأجنبية، وابتداءً من سنة 1986 كان هذا الموقع محط انشغال المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث. واستمرت مع ذلك في مواراة الكثير من أسرارها الدفينة وفي استقطاب المزيد من فضول الباحثين. فلا غرو في ذلك لما لعبته مدينة سجلماسة من أدوار مصيرية في تاريخ المغرب بصفة عامة.
      في هذا الإطار سعت الدراسة التي انجزناها سنة 2004 إلى مقاربة ظروف تأسيس المدينة، وتطورها العمراني بناء وزخرفة، وتصميما ومحتوى، وذلك في تقاطع تام مع عدد من التخصصات كالأركيولوجيا، والطبوغرافيا، وعلم دلالة أسماء الأماكن، ومع المصادر المكتوبة ككتب الجغرافيا والرحلات والتراجم والمناقب والمخطوطات والوثائق، إضافة إلى الرواية الشفوية.
      لقد سمح المنهج المعتمد باستجلاء العديد من مظاهر عمران هذه المدينة، ومكن من تصويب العديد من الأحكام حولها، والحسم في بعض الافتراضات، ودعم بعضها، في رحلة جمعت أحيانا بين فك الألغاز، وحل المتناقضات، وفهم الروايات، وربط المتكاملات، والكشف أيضا عن عدد من المعطيات الجديدة.
      لقد أثرت الظروف الطبيعية والتركيبة البشرية والمؤهلات الاقتصادية، بشكل مباشر على نمط وتطور عمران مدينة سجلماسة. فهي تقع بين نهرين وبالقرب من موضع يسمى "أكَلف" تغذيه عيون كثيرة. وقد أغفلت الكتابات القديمة والدراسات المعاصرة الإشارة إلى عملية تحويل مياه وادي زيز عن طريق شق قنوات وإقامة سدود تلية للاستغلال الجيد للمياه. ذلك أن صور الأقمار الاصطناعية كشفت عن غنى الطبقات الجيولوجية القريبة من السطح بفرشات مائية مهمة، وسمحت بتحديد موضع العين الرئيسة للماء بسجلماسة على طول الحافة الشمالية لمرتفع "الجبيل". غير أن مياهها لم تكن كافية، وهذا ما يفسر لجوء السكان إلى بناء سدود تلية على نهري زيز وغريس لتلبية حاجيات الواحة بشكل أفضل. كما مكنت تلك الصور من الكشف عن تركز الأراضي الصالحة للزراعة وأهم الأنشطة الفلاحية بالجزء الشمالي من الواحة.
      كما اشتهرت سجلماسة بإنتاج الحبوب وتربية المواشي خاصة الأغنام والماعز، واحتضنت عدة صنائع مثل الصناعة الخزفية التي حظيت بمكانة خاصة في اقتصادها وفق ما تم الكشف عنه من اللقى في عدة مواقع أثرية مغربية وسودانية. لكن يبقى النشاط التجاري أهم ركائز الاقتصاد السجلماسي وفي مقدمته تجارة القوافل الصحراوية، ويعتبر من العناصر التي أثرت بقوة في التطور العمراني للمدينة. فقد شكل الذهب محور المبادلات التجارية، وأهم الموارد على الإطلاق، ومكن ذلك من إقامة عدة دور لضرب النقود، واستقطاب عدد من التجار من مختلف الأصقاع. وبذلت كل التشكيلات السياسية التي حكمت سجلماسة مجهودات متفاوتة، للحفاظ على سلامة المسالك التجارية وتوفير الأمن الداخلي لضمان تدفق هذا المعدن النفيس.
      وهكذا، أثر النشاط الاقتصادي على تنظيم المدينة وطبيعة السكن بها، فقد كانت عبارة عن حاضرة مجمعة تمتد على طول وادي زيز، وتنتشر بضاحيتها بنايات متفرقة يستقر بها عدد من الفلاحين. وقد تأرجح اقتصاد المدينة بين احتكار السلطة الحاكمة التي استهدفت تحقيق الأرباح وإغناء خزينتها والتحكم بشكل أفضل في المدينة. وفي فترات أُخر ساد نوع من الرواج الاقتصادي المتفتح استفاد منه المنتجون والتجار على الخصوص.
      ومن الناحية الاجتماعية، استقطبت منطقة سجلماسة عبر تاريخها أعدادا هائلة ومختلفة من العناصر البشرية. فقد استقر بها الإنسان منذ عهود غابرة "العصر الحجري القديم" وعرفت فيما بعد توافد مجموعات إثنية وعرقية مختلفة. وإذا صح اعتقادنا فإن سكان سجلماسة كانوا متجمعين داخل أسوار المدينة كأسر وعائلات لها منازلها الخاصة ولها أيضا حقولها ونشاطها التجاري أو الحرفي، غير أنهم مع اندثار هذه المدينة في أواخر القرن الثامن الهجري -الرابع عشر الميلادي-، تفرقوا عبر الواحة فبنوا قصورا خاصة بهم. وقد اتخذت هذه القصور شكل تجمع سكاني داخل بناية موحدة تحاط بسور ضخم وعال تتخلله عدة أبراج، وله مدخل رئيس واحد. وبداخل القصر يوجد المسجد، والأروقة المغطاة، والساحة العمومية والدور السكنية الموزعة عبر الأزقة.
      كما أن سجلماسة كانت مركز استقطاب لرجالات العلم والمعرفة وكذا لأرباب المال والتجارة. لذلك كانت بفعل ساكنتها المتنوعة وبفعل انفتاحها على جميع التيارات الفكرية والمذهبية قبلة لتبـادل الرأي ولحريـة الاعتقـاد وللتسامح الديني، حيث تواجدت بها مختلف المعتقدات: الخارجية والسنية والشيعية والصوفية، إضافة إلى أهل الذمة.
      كما لا يمكن إنكار أن عمران سجلماسة تأثر سلبا وإيجابيا بالظروف السياسية المتميزة بعدم الاستقرار والتأرجح بين الاستقلال والتبعية. فقد شيدت مدينة سجلماسة حوالي سنة 140 هجرية /757 ميلادية من طرف خوارج مكناسة الصفرية بزعامة "أبي القاسم سمكَو بن واسول"، وكانت في أول الأمر ما بين سنة 140 هجرية/757 ميلادية وسنة 447 هجرية / 1054 ميلادية عبارة عن إمارة مستقلة تعاقب على حكمها كل من المدراريين والمغراويين. واستطاع أمراء سجلماسة خلال هذه الفترة الحفاظ على استقلالهم، بالرغم من الأطماع الخارجية -الفاطمية بإفريقية والأموية بالأندلس- وبعض النزاعات الداخلية.
      وابتداء من سنة 447 هجرية/1054 ميلادية وإلى غاية نهاية القرن الثامن الهجري -الرابع عشر الميلادي-، دخلت سجلماسة بصفة نهائية تحت سيطرة الحكم المركزي وتحولت بالتالي إلى ولاية من ولايات الدولة المرابطية ثم الموحدية من بعدها وأخيرا المرينية. وأصبحت المدينـة الممول الأساسي لخزينة الدولة المركزية، وقد جعلها ذلك هدفا لكل حركة تطمح في السيطرة على المغرب الأقصى أو الغرب الإسلامي ككل أو على الأقل تهدف إلى التحكم في تجارة القوافل. وشهدت تبعا لذلك توسعا عمرانيا كبيرا، وبالمقابل كانت مسرحا لعدة صراعات، فقدت المدينة على إثرها الكثير من بريقها، بل وأصبحت وضعيتها السياسية غامضة في نهاية الفترة المرينية، انتهت بتخريبها. وتبقى الفترة التي تلت القرن الثامن الهجري -الرابع عشر الميلادي- غير معروفة بدقة، وظل اسم سجلماسة قليل التداول، إلا أنه لم يعد يمثل المدينة وإنما المنطقة ككل.
      مع بداية الدولة العلوية -حوالي سنة 1037هجرية/1630 ميلادية- استعادت منطقـة سجلماسة بعض أهميتها. فكانت محـط عـناية من لدن معظم السلاطين العلويين، إذ قاموا بزيارتها وحاولوا إحياء بعض أمجادها. وقد عـرفت المنطقة تنمية اقتصادية ومنجزات عمرانية كبيرة، لازالت معالمها بارزة إلى اليوم مثل القصبة السجلماسية، وقصر أولاد عبد الحليم، وقصبة الفيضة، وقصبة آبار وغيرها.
      ويستنتج مما سبق أن النمط المعماري السجلماسي ارتبط بشكل أو بآخر بالمتغيرات الاقتصادية، والسياسية والدينية والاجتماعية التي عرفتها المدينة مع تعاقب العصور. وقد تمكنت هذه الدراسة من الوصول إلى معرفة بعض المكونات المعمارية للمدينة والتمييز بينها، وفق انتمائها إلى ما هو مجال عمومي أو مجال خاص، وإلى ما هو مؤسسة ذات طابع ديني أو سياسي، وإلى ما هو مرفق سكني أو مركز اقتصادي. كما أن الاعتماد على الصور الجوية وصور الأقمار الاصطناعية الملونة، مكنتنا من وضع خريطة مدققة عن المجال وما تحت السطح وعن التخطيط المعماري والتوسع العمراني بالمنطقة. هذه التشكيلات البنائية تغيرت بطبيعة الحال وعرفت مراحل من التوسع أو الانكماش من عصر إلى آخر.
      من جهتها قدمت الأبحاث الأركيولوجية بموقع سجلماسة عدة نتائج وكشفت عن معطيات معمارية مهمة لم ترد في المؤلفات المكتوبة بتفصيل. من أهمها ذكرا لا حصرا المسجد الجامع والتطورات البنائية التي عرفها منذ فترة المرابطين وإلى غاية العصر العلوي الأول، ثم السور الخارجي من حيث مواد بنائه، ومن حيث امتداده ومكوناته. كما قدمت معلومات عن نمط السكن السجلماسي من حيث التصميم، مواد البناء ومرافقه وأيضا عن المنشآت الإنتاجية مثل الصناعة الخزفية من حيث تمركز معاملها وتطورها ومنتجاتها والأدوات المستعملة. كما كشفت التحريات الأثرية أيضا عن بعض التجهيزات المائية كالسدود والقنوات والأحواض والخطارات وغيرها..
  عودا على بدء، يمكن القول إن الحفريات الأثرية بموقع سجلماسة وإن اتخذت طابعا ظرفيا؛ فإنها كانت مبادرة أولية لمعرفة خصوصيات موقع المدينة "العامرة أو المردومة" اعتمادا على إنجاز أسبار متعددة في أماكن مختلفة، قصد الحصول على المعطيات الأساسية للبقايا الأركيولوجية بهذا الموقع. وبالرغم من الصعوبات الكثيرة التي يطرحها موقع سجلماسة الأثري؛ فإن هذه الحفريات تمكنت من تسليط الأضواء على عديد من المكتشفات يمكن إجمالها فيما يلي:
      أظهرت حفريات المسجد الجامع، أن هذا الأخير يعتبر من المعالم العمرانية التي تحظى دائما بعناية الحاكمين والمحكومين على السواء، فكل يعمل حسب إمكانياته حتى يكون المسجد في أحسن حلة. ولعل هذا ما يفسر المستويات الأثرية المتنوعة التي كشفت عنها الحفريات والتي تمثل سجلا تاريخيا لمراحل البناء والإصلاح بالمسجد على مرور مختلف العهود. وكشفت هذه الحفريات النقاب عن أربع مستويات مختلفة على الأقل:
      •    مستوى ينتمي إلى ما قبل وصول المرابطين أو إلى فترة سيطرتهم النهائية على سجلماسة؛
      •    مستوى توسيع المسجد في عهد الموحدين؛
      •    مستوى التجديد على يد السلطان مولاي إسماعيل؛
      •    مستوى إعادة البناء من طرف السلطان سيدي محمد بن عبد الله.
      محاولة تحديد وظيفة البناية التي تقع وسط وادي زيز، والتي يفترض أنها عرفت مرحلتين من الاستغلال:
      الأولى ربما كحمام عمومي والذي تعبر عنه الطبقات الأثرية السفلى التي يتراوح عمقها بين متر واحد ومترين ونصف أمتار؛
      المرحلة الثانية: تمثلها الطبقات العليا وهي عبارة عن حوض وقناة مائية، وهما يشكلان ولا شك أجزاء من الناعورة ترتبط بشبكة مائية كانت تزود مرافق سجلماسة أو القصبة السجلماسية بما تحتاجه من المياه سواء المستعملة في الشرب أو السقي.
      وقدمت حفريات البعثة المغربية الأمريكية معلومات هامة حول السور الغربي لسجلماسة. فقد كشفت الأسبار المنجزة داخل بعض الأبراج عن مستويين مختلفين في البناء ويقعان فوق مستوى سابق يمكن أن يؤرخ بالقرن -الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي- أو القرن -السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي-.
      وأثبتت الدراسة الطبوغرافية التي قام بها (طوني ويلكنسن) Tony Wilkinson أن سجلماسة كانت عبارة عن مدينة تمتد على طول وادي زيز وكانت لها أربعة أبواب رئيسية هي: باب الساحل أو الشرق قرب قصر أمسيفي، وباب القبلة أو الجنوب ويقع بين قصري وطارة وكَاوز، والباب الغربي يوجد قرب ضريح مولاي عبد المؤمن وباب فاس بالشمال قرب قصر المنصورية. كما أبانت التحريات أن سجلماسة كانت محاطة من الشمال والجنوب بعدة أرباض ومعامل صنائعية.
      تدقيق المعرفة بموقع سوق ابن عقلة، إذ يلاحظ من خلال الصور الجوية والمسح الأثري أن هذا الموقع يمتد على مساحة تتراوح ما بين كيلومتر واحد وكيلومترين مربعين. كما تم معاينة طريق ضيق ومستقيم يربط بين موقعي سجلماسة وسوق ابن عقلة. وتوصلت الأبحاث إلى اكتشاف بقايا بنايات مستطيلة تحدها المقبرة في الشمال وفي الجنوب من الطريق التي تخترق هذا الموقع. وتوجد في الوسط تشكيلات عمرانية مربعة ومحصنة تمتد على مسافة 90 متر من الشرق إلى الغرب، وعلى 80 متر من الشمال إلى الجنوب. ويظهر من هذه البقايا أنها كانت تمثل فندقا أو قصبة، وأن هذا السوق كان يحيط بالحقول ويمثل امتدادا طبيعيا للمدينة الأم "سجلماسة" وكان يمثل محطة لقوافل التجارة البعيدة الآتية إلى سجلماسة أو الذاهبة منها.
      الخزف المكتشف خلال هذه الحفريات يمكن تصنيفه إلى ثلاث مجموعات:
      المجموعة الأولى: توجد في الطبقات العليا وتنتمي إلى الصناعة الخزفية البحايرية والمؤرخة ما بين نهاية القرن -الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي- [تاريخ بناء القصبة السجلماسية] وبداية القرن -الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي- [تاريخ تخريب القصبة]. يتميز خزف هذه المجموعة بوجود طلاء لامع ذي لون أخضر أو أصفر أو بني وأهم أوانيه هي الأقداح، والجرات والصحون. ويضاف إلى هذا الصنف الخزف المستورد من المناطق والمدن الأخرى وخاصة من مدينة فاس؛
      المجموعة الثانية: ترجع إما إلى المركز الخزفي المشيد على أنقاض مدينة سجلماسة ابتداء من نهاية القرن -الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي- أو بداية القرن -التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي- وإلى غاية تشييد القصبة السجلماسية في نهاية القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، أو إلى الواردات من مصانع أخرى؛
      المجموعة الثالثة: وجدت بالطبقات السفلى للأسبار وترجع إلى المعامل السجلماسية الواقعة بغرب وادي غريس وإلى مراكز أخرى قريبة أو بعيدة. وتؤرخ ما بين القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي ونهاية القرن -الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي-. وتتميز بتقنية إنتاجية عالية وبتكوين صلصالي جيد يتخذ لونا أصفرا أو أبيضا مع سمك رقيق وتمثل أغلب قطعها الأواني ذات الاستعمال المنزلي. وتنتمي القطع الخزفية المجمعة على السطح بموقع سوق ابن عقلة، في أغلبها إلى الصنف الأخير. ويظهر أن الآنية المستوردة كثيرة جدا بهذا الموقع بالمقارنة مع ما يوجد فوق موقع سجلماسة..




المصدر: جريدة ميثاق الربطة

0 التعليقات:

إرسال تعليق